2008/03/21

العودة إلى الحياة




(1)
شعرتُ بأني خفيفة الحركة ... أتحركُ في سلاسة دون أن يعوقني أي شىْ أ و يشدني للأرض .. وكأني في مكان منعدم الجاذبية ولكني في نفس الوقت أُسيطر تماماً علي حركاتي ، وبدأتُ أنظر حولي ... وللوهلة الأولي تعجبت من الوضع الذى وجدت نفسى فيه ، فهو وضع لم أجربه من قبل فمن حولي كانت جدران حجرة ليست غريبة علي ولكني لم أنظر اليها من هذا المنظور ، وفجأة .. سمعت صوت بكاء ... وتلفت وأخذت أبحث عن مصدر هذا البكاءونظرت الي أسفل يا ألهي !! .. ماذا أرى؟ .. سيدة ترقد علي سرير مسبلة العينين ، وحولها اربعة أشخاص وطفل صغير والأخير يبكي بحرقة وتردالسيدتان ببكاء شديد من قلبين فطرهما الألم والحزن .... واقتربت منهم رويداً رويداً ، وذُهلت مما رأيت .. فهذه السيدة المسجاة علي سريرها هي أنا .. وهذا الطفل الباكي هو عبد الرحمن أصغر أولادي وأحبَهم الي نَفسي بحُكم صغر سنه و إحتياجه للرعاية ... وللوهَلة الاْولي أُصبت بدهشة شَديدة ، فكيف أري نفسي مُمَددة علي السرير كيف أتواجد في حجرة واحدة في شخصين في نفس الوقت ؟؟ .. وأخذت أفكر لدقائق .. وفجأة بَرق في ذهني ماحدث ... لقد مت .. نعم .. لقد خَرجَت روحي من جَسدى وهذه روحي هي التي تري جسدي المُمَدد علي سريري .. وساعتها علمت لماذا كنت أشعر بهذه الخفة في الحَركة... فقد تخلصت من ثقل جسدى ، وأصبحت أطير مثل الفراشةفي فضاء الحجرة .. ونظرت الي وجه إبني عبد الرحمن وأخذت أتأمل وجهه الباكي و ملامحه الطفولية البريئة .. لهفي عليك يا ولدى .. تيتمت صغيرا .. ولكنها إرادة الله .. ولا راد لقضاءه .. وإقتربت من عبد الرحمن أتلمس شعره في حنان دافق .. ورأيته يتجه الي اخي الأكبر ( علي) ، وسمعته يسأله : خالي .. لماذالم ترد علي امي عندما ناديتها ؟ .. فأخذه أخي بين زراعيه واحتضنه في حنان و أخذ يُربت علي ظهره ثم قال له : لأنها لا تستطيع الرد عليك يا بني .. وفرت دمعات من عيني أخي وإنحدرت ساخنة على وجنتيه ، وأخذ يردد في إيمان : إنا لله وإنا اليه راجعون .. الله يرحمك يافاطمة .. كنت مثالاً للأم الحنون لأولادك .. لهم الله من بَعدك وأخذ يدنو من الجسد الراقد في سكون وعَليه رهبة الموت .. ثم أدني فمه من أُذني وقال : لا تخشي شيئا فأولادك هم أولادي سأرعاهم من بَعدك حتي يصلوا إلي ما كنت تَتمنينه لهم .. فأرقدي في سلام . وعلا صوت الأختين بالنَحيب .. وأخَذهما أخي عبد الله بين ذراعيه .. وأخذ يُحاول أن يهدىء من روعهما و الحزن باد علي قسمات وجهه .
وخرج ( علي ) من الحجرة للإعداد لدفني فإكرام الميت دفنه كما تعرفون .. فأرسل مَن يَشتري الكَفَن ومَن يفتح المقبرة الخاصة بالعائلة ومن يُعد السرادق وكذلك آخر ليبلغ الأقارب في البلدة وخارجها ....
وتمت الاجراءات وصلي الجميع علي صلاة الجنازة في المسجد القريب من منزلنا بعد صلاة العصر مباشرة ، وبدأت رحلة النهاية بالنسبة لي .. وخرجوا يحملون الجُثمان وإتجهوا به إلي المدافن .. وتابعتهم حتي وصلوا إلي مقبرة العائلة وأنزلوا الجثمان ووضعوه برفق علي أرض المَقبرة ... وخرجوا وأغلقوا الباب بالطوب والاسمنت ... ووقفوا يدعون لي بالتثبيت عند السؤال وأَن يَتَغمدني الله برحمته ثُم تفرقوا كل إلي حال سبيله .. وتركوني وحيدة .. مثل أى انسان جاء أجله وانتهى نصيبه في الدنيا .. وأخذت أنظر الي الجسد الممدد علي الأرض والذى بالكاد أميزه .. وجلست افكر وأقول لنفسى : هذه هي النهاية .. ولو يذكُر الناس هذه النهاية ما فعلوا ما يفعلونه معَ بعضهم في الدنيا من صراع من أجل المال و المناصب والكيد لبعضهم البعض .. وفي النهاية لا يحصلون إلا علي متر في مترين وما فعلوه من عمل صالح.
(2)
وخرجت من المقبرة و جلست فوقها أفكر .. ماذا أفعل ؟ .. ثم قررت العودة إلي المنزل لرؤية أولادى .. فالله أعلم متي أراهم ثانية .. ووجدت البنتين تبكيان فهما في سن قد يفهمان فيها معني الموت ، فالكبرى دينا في الرابعة عشر من عمرها و الصغري في الثانية عشر .. وأخذتا تدعوان لي بأن يرحمني الله وأن يدخلني الجنة .. ودخل عليهما عبد الرحمن الحجرة وهو دامع العينين ، ثم قال لهما : لماذا تبكيان ؟ .. ولماذا يبكي كل من في المنزل ؟ .. وأين ذهبت امي ؟ .. وفي هذه اللحظة دَلف ( علي ) من باب الحجرة ورد عليه : لقد سافرت أمك في رحلة طويلة يا عبد الرحمن ، ولكنها تحبك كما تعلم .. فرد عليه عبد الرحمن بقوله : و أنا أحبها جدا ياخالي .. فلماذا لم تأخذني معها ؟ فقال (علي ) انها لا تستطيع يا بني .. فليس الأمر بيدها ، فنظر اليه عبد الرحمن في حيرة .. وسكت ، فلم يكن يستطيع إستيعاب الأمر في هذه السن فهو مازال في السابعة من عمره .. ولم يستطع أن يفهم كيف تتركه أمه نبع الحنان فجأة دون حتي أن تودعه .. فهو لم يعتد منها علي ذلك ، ..
كنت احس بما يعانيه وأردت أن آخذه بين زراعي وأضمه الي صدرى ولكن هيهات ، وفجأة شعرت بشيء يشدني بقوة رغما عنى .. ورأيت الشوارع تجري أمامى بسرع شديدة .. حتى وصلت الي داخل المقبرة التي دفن بها جثماني ودخلتها .. كل ذلك تم دون ارادة مني ، ووجدتني أدخل في الجسد الراقد علي الارض ملفوفا في اكفانه حتي صرنا كيانا واحدا وفتحت عيناى وأخذت أنظر حولي .. وأدركت صعوبة موقفي الراهن ، فلن أستطيع الخروج أو الطيران كما كنت أفعل وأنا خارج الجسد روح فقط .. واعتدلت جالسة علي الأرض وكنت في ظلام دامس .. وأخذت أتحسس الأرض من حولي وعثرت يدي علي بعض العظام من رفات أموات العائلة ممن دفنوا قبلي .. قد تكون هذه عظام أمي رحمها الله فهي آخر من دفن قبلي وبدأت افك أكفاني ثم قمت وأمسكت أطراف الكفن العليا بيدى..وبدأت أسير بخطوات متحسسة في اتجاه باب المقبرة ممسكةرافعة أطراف الكفن السفلية بيدى ا لأخرى .. لم أستطع ان أرى شيئا في ظلام المقبرة بالطبع ، ولكني أعرف اتجاه الباب فقد دخلت هنا من قبل وأنا روح بلا جسد..ووصلت الي الباب ومددت يدي اليمنى وتحسست الفتحة المغلقة حديثا .. وجدت الأسمنت ما زال لم يجف تماما .. فأخذت نفسا عميقا وتنهدت تنهيدة ارتياح.. فيمكننى الخروج باذن الله ، وقمت بربط اطراف الكفن العليا فوق صدرى حتي تكون يداى بدون عائق ثم بدأت في محاولة ازالة الطوب والأسمنت بدفعه للخارج .. ولكنني لم أستطع .. ماذا أفعل يا ربي؟ ..ان لم أخرج من هنا قبل اأن يجف الأسمنت فسوف أموت فعلا .. وطرأت لى فكرة فجلست علي الأرض وأخذت أبحث عن احدي العظام التى وجدتها من قبل ..وامسكت بها واستجمعت ما بقي في من قوة وأخذت أدفع للخارج بكل ما استطيع من قوة وأخيرا سقطت طوبةمما شجعني علي بذل اقصي ما أستطيع .. فأخذ الطوب والأسمنت يتساقط حتي استطعت عمل فتحة تسمح بمرورى للخارج ..ونظرت من داخل المقبرة فرأيت الليل وقد أرخى سدوله و النجوم تتلألأ في السماء وشعرت بلسعة برد تسرى في جسدى وحمدت الله أننا في فصل الشتاء مما جعل الاسمنت لا يجف بسرعة مما ساعدنى على فتح باب المقبرة .. وشعرت بالسكون المخيم علي المقابر.. وبهدوء اعدت العظمة الي مكانها ودعوت لصاحبها وطلبت منه أن يسامحني فلم يكن أمامي طريقة أخرى لفتح المقبرة ودعوت الله ان يغفر لي.. وكنت أسمع من حين لآخر صوت بوق سيارة مارة من بعيد .. .. والآن لا بد أن أخرج وأذهب الي احد المنازل القريبة من المقابر لاستنجد بأهله .. ولكن كيف أسير بهذا الكفن ؟.. هل أسير هكذا عارية الكتفين والشعر؟ ماذا أفعل ياربى ؟ .. و حمدت الله اننا في وقت متأخر من الليل والناس نيام وباذن الله لن يراني أحد ، ثم خرجت من المقبرةووقفت أمامها لأختار الطريق الذي سأمشى فيه واتجهت يمينا وبدأت في السير حتى وصلت الى الشارع واتجهت الى أول منزل صادفنى ومددت يدي أدق على بابه المغلق .. دققت الباب مرات عديدة حتى سمعت صوت همهمة وخطوات متجهة الى الباب ووصل الى اذنى صوت سيدة تسأل : من ؟ فأجبت بلهفة أنا ..أرجوكى افتحى لى الباب .. ففتحت شراع الباب ونظرت الى برهة ثم صرخت عفريتة .. عفريتة .. وهى تجرى الى الداخل .. وحاولت اقناعها بأنى بشر من لحم ودم دون جدوى .. كيف أتصرف ؟ .. واسقط فى يدى ، ولم أجد أمامى سوى حل واحد وهو أن أجلس أمام الباب حتى بزوغ الفجر واقناعها بفتح الباب لى حتى تعطينى ملابس لتسترنى وفعلا جلست أمام الباب وحاولت وضع الكفن علي شعرى ووكتفى لسترهما .. وأحسست أن قواى تخور .. وبدأت أ شعربارهاق شديد و النعاس غالبنى .. فما مررت به ليس سهلا .. رحلة الموت و العودة للحياةمرة أخرى !! وأخذت أفكر في فرحة الأهل والأبناء عندما يروننى أمامهم حية ارزق ... فهذا الموقف لا يحدث كثيرا ولا يعود أحد من الموت مرة ثانية الا فى حالات نادرة قرات عنها تخرج فيا الروح من الجسد فى المستشفيات ثم تعود مرة أخرى للجسد ويروى اصحابها ما سمعوه وما رأوه في هذه الرحلة
وبدأت تباشير الفجر الجديدتظهر فأخذت أطرق الباب ثانية ... وجاء رجل وفتح الباب فذكرت له باقتضاب ما حدث لى فنادى على زوجته التى أدخلتنى هذه المرة واعطتنى بعض من ملابسها وأدخلتنى الى احدى الحجرات فأرتديت الملابس فى عجالة .. وجاءت المرأة وساعدتنى لاصعد السريرفقد خارت قواى بعد ما مررت به فى الساعات القليلة الماضية ، وغطتنى .. ورويت لها مامررت به من ساعات عصيبة وطلبت منها ان تقوم بابلاغ اهلى ولم أشعر بنفسى وأنا أسقط فى سبات عميق
تمت بحمد الله.

هناك 3 تعليقات:

غير معرف يقول...

أهنئك السيدة سمر على جرأتك الشديدة في اقتحام عالم الكتابة المتنوعة الهادفة ، التي تعبر عن قضايا مجتمعنا و همومه ، كما نهنئ أنفسنا لأننا وجدنا في السيدة الفاضلة متنفسا لأفكارنا ، في وقت لم يعد هناك مجال للتعبير الهادف الجاد .
إمضاء : د / محمد بن مرزوقة

محمد بشر لا كالبشر يقول...

سمر
حقا انتي سمر
زرت صفحتك الرائعة وسكرت
كيف وفيها محبة لله ورسوله
ما اعظم نشوة الحب الخالد
حب الله ورسوله
ادعوك للاكثار من الصلاة علي الرسول
والاكثار من المواضيع الدعوية



مجانينو الا ان سر جنونهم عجيب علي اعاتبه يسجد العقك

الأسدالطيب يقول...

تقبلى تقديرى بهذا الموضوع وتهنئتى لكي على كتابته وطرحه ولكن عندى ملحوظة صغيرة هى أن هذا الموضوع قد طرح من وجهة نظر أخرى مسيحية لكاتب روسى ولكن هذا لا يقلل من قيمة العمل وما تناولتيه بالعكس كان للأبد من طرحه من وجهة نظر إسلامية لأهميته وقد رأينا على أرض السويس الحادثة الشهيرة للشاب الجامعى أبن الدكتور الشهير بالسويس والتى حدثت بأحدى شاليهات السخنة وقيل أن أصدقاء هذا الشاب أعتادوا أن يلعبوا لعبة أسمها لعبة الموت وهى شنق أنفسهم لبضع ثوانى ليروا ما فى العالم الأخر وما يحدث فيه وأنا أربت على يديكي لطرح الفكرة ولكن الأهم هو أن يعلم شبابنا تعاليم ديننا الحنيف والتمسك بكتاب الله وسنة نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم)فى كل أمور حياتهم وصدقوا بما جاء به من أمور الموت وما يحدث فيه................
أعتذر للأطالة وأن كان الموضوع لم ينتهى أردت فقط التعليق وأحييكي
محمد عبدالرازق
mabdelrazek15@yahoo.com
abd_elrazek2010@maktoob.com
0183398348